قهقهة على الأطلال



قهقهة على الأطلال.. بيان شعري بمثابة مقدمة، بقلم/ محمد العباس

الشعر، ذلك الإمكان الجمالي /الإنساني الهائل، ليس إشكالية عربية. أنه اندهاش كوني، السؤال عصبه، والشعور دمه. وبما هو احتمال، أو فعل خيلولة ووعي، له من الضجيج الثقافي والتاريخي والفني، على الضفة الأخرى من العالم، ما يفوق الصخب العربي، فهناك أيضا يراد للشعر أن يكون مجرد تراث جميل ينام في الذاكرة.

يوما ما، إنتبه هيجل من تاريخانيته على ذلك الاعتقاد الشعوري الآخذ في الانقراض برأيه، وتنبأ بحسه الديالكتيكي " نهاية الشعر " كمكن لغوي تقوم عليه الماهية الإنسانية، فمصيبة القرن التاسع عشر - برأيه - تكمن في لا شاعريته، حيث بدأت الثقافة تدخل مرحلة الإنحطاط. ورحل تاركا لميشيل فوكو، الخبير بعلم آثار الخطابات، مساحة للحفر الأركيولوجي في جثث غائياته، أوحتمياته التاريخية، فصار يقوّضها ليؤسس سلطة الإنسان الذي ببقائه بقي الشعر.

ربما أغفل هيجل، المفتون بالنهايات، حقائق إنسانية أشمل وأهم، فتجاوزها لتمظهرات جمالية عارضة. راقب شكلا مفرطا في الغنائية الكلاسيكية من انتصابات الشعر الغارق في الدلالات الصوتية، لكنه بالتأكيد لم يعلن أن الإنسان سيبتلع لسانه، ويكف عن الغواية، والتمثل بالكلمات، فاللغة مكمن وعي الإنسان وجنونه.

شيء من نبوءته تحقق بالفعل، ولم يكن أول من لاحظ التحول الدراماتيكي للذائقة. سؤال الشعر له سحنة نفسية، ومجرى تاريخي أيضا، ففي فرنسا كان فينلون يصرخ " إن شعرنا - إن لم أكن على خطأ - يخسر بالقافية أكثر مما يربح. انه يفقد كثيرا من التنوع، ومن السهولة، ومن التناغم، وغالبا ما تجبر القافية الشاعر، الذي ينطلق بعيدا في التفتيش عنها، على الإطالة والإبطاء في قصيدته ".

إذا فالوزن، والقافية تحديدا، كانت ولا زالت مكان الإعتراك، رغم الهوة الآخذة في التضاعف بين فقرها الدلالي وهيمنة بعدها الصوتي، نتيجة حركة كونية مغايرة، لا تحكم إيقاع النص وحسب بل إيقاع الإنسان، ورغم الحقيقة الانقلابية – إنسانيا وفنيا - التي باتت ترى في الوزن أقل العناصر شعرية بعد أن احتكرت مفهوم الشعر لزمن.

هناك، كان الجدال حاميا، عنيفا، وعميقا لدرجة المجاهرة بدعوة لإبدال الخيال كطاقة تعبيرية بالفكر، والاستعاضة عن التهويمات بالتمثلات الذهنية. وتعرضت فكرة الإلهام الشعري، شيطان الشعر، ووادي عبقر الباريسي لسخرية مرة، فكلمة " عبقر " لم تعد حكرا على غوته وشكسبير وهوغو كما يشير جان كوكتو، بل قد تعني " إمرأة ستاندال " التي كانت تنزل من عربتها في عبقرية، إذ العبقرية - برأيه - نوع من التعبير الرفيع للمرء عن أي شيء، وقد كانت تتشكل بروح وحس جماعي يشبه ما اعتبره فوكو تشاكلا بنائيا بين اللغة والجماعة. عندها تحطم وهم الخيلاء الشعرية أمام المفهومات الجمالية الصاعدة، فقد طال الجدل حتى منشأ الشعر الروحي، وجوهره الباطني.

في ظل ذلك التلاسن الاستطيقي، كان الشعر يتخفف من صرامة البعد الأخلاقي. ينفلت بسرعة قصوى من وثنية الجنس الابداعي، ومن عقال الضغوطات الكنسية، وأرثوذكسية البلاغة، ليندفع في الهلوسات واللاوعي واللاشكل. والمفارقة أن مالارميه رفض يومها، ما عرف بالشعر الحر، ولم يقر فولتير - الإصلاحي - بالقصائد النثرية، فيما كان فرلين يتأوه مستنكرا " أوه ! من يعدد لنا أخطاء القافية !... أي طفل أصم، وأي زنجي مجنون.. صاغ لنا هذه الحلية البخسة الثمن ".

كل المراوحات الداعية للتحفظ في التجريب، ولإصلاح القافية التدريجي، من أجل إعلاء بعدها الدلالي ليتجاوز معطاها الصوتي ذهبت أدراج الرياح. إنتصر النثر، أو " أعجوبة النثر الشعري " بتعبير الداندي بودلير، الذي سجل فتحا حداثيا بمجموعته الشهيرة " أزهار الشر " ثم نثيراته الانقلابية " سأم باريس - قصائد نثرية قصيرة ".

وباتت الأمجاد الكلاسيكية، بكل رنينها وإصاتاتها، ذكرى ومرجعيات تاريخية في الكتب المدرسية، وان لم يأت الشعر الذي بشر به رامبو، ذلك " الفعل الشعري القابل لكل المعاني " ربما لأنه - أي رامبو - انصرف عن الشعر، إلى النخاسة والمتاجرة بالعبيد، وهوامش أخرى لا شعرية، وظل حتى آخر حياته يسوط أخته الحيرة، عبر رسائله، ندما، لا على موبقاته، إنما على غبائه، إذ لم يصل إلى تشويش كامل للحواس كما أراد ليبلغ الخلوص الشعري.

نتذكر اعتصامات اندريه بروتون بالبالطو الشتوي أمام الكنائس، الذي أراد " دمج الحقيقة الداخلية بالحقيقة الخارجية " ومسلسل احتجاجاته على الكولونيالية. غرائبية بياناته الشعرية، حين أعلن " استهلال القطيعة " و " مرابض الكلاب ". يومها كان السرياليون يسجلون فتحا شعريا، يرفع عن محيا الشاعر بصمة التصنيف، ويستفز دافعية اللاوعي ضد الاضطهاد، حيث الوصل الحلمي بين النفسي والغيبي، لتخفيف حدة التناقض بين حقيقتي الوعي واللاوعي الموجبة لشقاء الانسان.

واستكمالا لأسئلة حائرة، أراد السرياليون التخفيف بالشعر من حيرتهم أمام مد الرواية المتعاظم عير مزاوجة هلوسات الحلم بصدامية الواقع،فأربكوا تعاقبية الأزمنة، وسكونية الأماكن , وهكذا جاءت أسئلهم إنقلابية، بل تدميرية وأقرب إلى الشطحات. فانتازيا تجهد لتذويت العالم، ومعاينة الأشياء المدسوسة كألياف متناهية الضآلة في الصورة الشعرية من الأسفل إلى الأعلى، للوصول إلى شعر يستمد طاقته من جوانية الذات كمنحوتة شعرية. ألم يتوهم يومها شاعرهم الزهور مقاعد !؟ والعيون أماكن أجمل للقاء؟

لم تكن الأسئلة آنذاك مرتبة كما قد نتوهمها ونستعيدها الآن بمزاج المسترخي على دكة الحلم، وعذرا لخلط الأزمنة. لحظة بودلير، واراغون، ورامبو، وبروتون، ولوتريامون . كلهم من أهل الصنعة الجمالية على أية حال. ولا يوجد سؤال – شعري كان أو غير شعري – لا يعاد استنباته وتدويره، فكما يعاد تدوير التاريخ والأذى، يمكن تدوير الجمال أيضا.

المهم أن السجال كان ضاريا، مشوبا بالصراخ، محقونا بالرغبة في التجديد والمغايرة والانعطاف بالذائقة، ومحتضنا بدافعية اسمها الفعل الإنمائي، في لحظة عرفت فيما بعد بعصر " القوة الروحية " الذي فسح للإنسان هامشا أوسع للتمثل على الأرض وتعميرها، وذهب بالشعر الآخذ بالانسلاخ من الوعظية والخطابية المنبرية، إلى شفافية أقرب إلى معمارية ونظام الموسيقى الإيقاعي في أقصى تحولاته الانقلابية.

حينها، كان والت وايتمان، الذي يصفه خصومه بأنه لا يعرف عن الشعر أكثر مما يفقه خنزير في الرياضيات، يمتص من " الأوبرا الايطالية " حسها الفني، وينصت لكل النداءات المبعثرة في أقاصي القارة الجديدة التي كانت تكتظ بها امريكا الهنود الحمر.. البربرية.. وضجيج الحياة النيويوركية حتى أبعد نقطة في قاعها الاجتماعي، ليصهر كل ذلك الإصغاء في كبسولة رائقة ومروعة شعريا، هي عبارة عن ديوانه الأشهر " أوراق العشب " الذي صودر بمجرد صدوره، ومنع من التداول لأنه يمثل بأمانة صوت المعربدين، أي أولئك الذين ينبتون بفوضوية على هامش الحياة، ويهددون ببدائيتهم علياء النص كمكان اجتماعي، المنتج بمرئيات وشروط النخبة الاجتماعية.

في ضفة أخرى، كان عبقري التنظير الشعري ت. س. اليوت يحرث " الأرض الخراب " بحساسية جمالية مغايرة قوامها المفردة اليومية، ويقترح ميكانزم " الخيال السمعي " كمفهوم شعري جديد أشبه بانقلاب " التلوين العقلي " الذي عرف عند أبي تمام، لينهض بالنبض الإيقاعي الغامض للشعر، ويطبقه فعليا في رباعياته، حيث قارب بين بنية نصوصه الشعرية والتأليف السمفوني، فيما يشبه مفاجأة النص بلا وعيه، أي بما يستبطنه من بنى عميقة.

وفي مقابله يطرح المتمرد ألن جينسبرج، أحد أعضاء " البيتس " أو النسخة الأمريكية من سلالة الشعراء الملاعين، اقتراحا مضادا، يتكيء على مسرحة الشعر، كتابة، تلاوة، وإصغاء، لا ليعارض اليوت وحسب، ولكن بحثا عن التنوع الدرامي للنص، ورغبة في الانتماء إلى روح اللحظة، بكل قلقها، واضطراب أو لا مبالاة الكائنات التي تحتويها، تماما كما كان آرنولد شونبرغ يخلخل السلم الموسيقي بنغماته الاثني عشرة، ليعبر عن روح القرن العشرين.

كل ذلك الجدل الإرتقائي الذي يصنّعه الآخرون باللغة كمكان، وكإمكان سحري، كنا نمتصه، ونتراشق به. وفي نفس الوقت نخشى أن نصاب بالعدوى منه، لأننا ربما كنا نجترح حداثة أريد لها أن تسير بخطى بطيئة، مرتبكة، واجفة، وبمنحى أفقي، فنازك الملائكة التي كسرت هيبة عمود الشعر بـ " الكوليرا " ارتكست أمام إنعطافة جمالية أقل سطوة، ولم تزلزل محمد الماغوط، عندما اعترضت ديوانه " حزن في ضوء القمر " بكل ثقل وارث البلاغة العربية، معتبرة القصيدة النثرية بمنتهى البساطة " بدعة غربية " ولا يمكن بحال أن تقبل تعريب قصيدة النثر، لئلا تنخدش قدسية القصيدة العربية فهي عنوان مكين لقومية تطفو زهوا على سطح التاريخ باللغة.

الماغوط كعادته وكما عاهد نفسه، ازداد حزنا.. وإصرارا.. ونثرا، ولم تكن كلمات نازك الملائكة على درجة من القسوة، أو الإقناع المعرفي والذوقي لتنهره عن متوالية فنية، مزاجية، إيقاعية، وحسية، لم يعد قادرا على العيش خارجها، لينجز " غرفة بملايين الجديد " و " الفرح ليس مهنتي ". لكن الأصوات التي أدمنت احتكار الحقيقة الشعرية لم تقبل بأي فتح شعري جديد، إذا ما انتبهنا لأحمد عبد المعطي حجازي، الذي كف عن الشعر، وامتهن التصريحات التقويمية ليدخل الشعر في مناحة، ويبشر بعصر انحطاط جديد عنوانه " قصيدة النثر ".

معه حق فما دام الفهم التصنيفي أو القالبي للشعر هو السائد، وما دام هو خارج المنافسة فعافية الشعر ليست على ما يرام. ولن يكون الوحيد المتأسي على حال الشعر، فعز الدين المناصرة، شخّص المولود الجديد ( القصيدة النثرية ) على أنها " خنثى " ولم نكن قد سمعنا من قبل أن أحدا أراد أن يذّكرها أو يؤنثها، عدا عبدالله الغذامي الذي اعتبر الشعر الحر ردا أنثويا على فحولة الكتابة أو الطغيان الذكوري، ليدخلنا في متاهة هيرمونطيقية يسبق فيها هاجس التأنيث فعل التحديث، وربما لهذا السبب بالذات رفض، حسب تعبيره، أن يكون " مأذونا " مهمته تزويج القراء بقصيدة النثر.

ملعونة هذه البدعة " قصيدة النثر " التي يعيب عليها جان كوهين نقص دلالتها الصوتية، ويقتدي به عز الدين المناصرة مطالبا العودة بها إلى بيت الطاعة الشعري، شريطة التزامها بالدلالة الصوتية، والإيقاعية تحديدا لتستكمل سيرة السلالة الشعرية، لئلا تخرج على النسق، أو المزاج، أو ارشيف الذاكرة العربية، فيما يصر سليم بركات على تأكيد نسبها الأعظم إلى الشعر، بوصفها أبرز تجليات الحداثة، ويراها سعدي يوسف وسيلة للارتفاع بالشعر عن درجة الصفر.

ولنربطها - كنزوة فنية - بحبلها السري، فهي لا تكف عن التبدل كحتمية أو سؤال له سمة المطلب السوسيو-ثقافي أو التاريخي، لا بد من العودة إلى محطة أعمق في تاريخنا الشعري. وتحديدا، يوم ضحك أو ربما قهقه أبو نواس على الأطلال، عازفا عن الوقوف، مفضلا الجلوس اللهوي فيما يشبه عبث المبدعين. ألم يؤسس يومها لأسئلة جادة وحادة أفضل من فجاجة التصريحات المتشاعرة والمتعالمة!؟

لم يكن احتجاج النواسي هو الأول، ولا الأخير، فلنا تراث لا يستهان به من التململ الشعري أقدم من "طواسين" الحلاج التي يراها محيي الدين اللاذقاني إرهاصات أولى لقصيدة تتململ داخل قيدها الفراهيدي. وطوال سيرتنا الشعرية كانت هناك شكوى دائمة: ضيق بالنظم والقافية. نفور من سذاجة المعاني وكثافة المديح المناسباتي والهجاء المجاني. اشمئزاز من انبساطية ووهن الأخيلة وتكرار الصّور. لم لا وقد وصل الشعر في مفاصل كثيرة من مسيرته إلى نقطة انعدام الوزن الحسي، فقد انطفأ ألق الشعر، أو التبس بصناعة منحطة عنوانها النظم والتلفيظ، اذ صار المعنى وكافة عناصر الشعرية تتبع الوزن وليس العكس.

كل ذلك بدا واضحا في خروج أبي العتاهية على الأوزان مرارا، فقد كان أكبر من العروض، حسب قوله. وفي "لزوميات" المعري الذي اتهم ومن قبله المتنبي بمخالفة النسج على "الباراديم" العربي، حسب ابن خلدون. كما تبدى في تبرمات الفارابي الذي اشتكى من سذاجة الإيقاع في القصيدة العربية وإنفقاد الصلة بين موسيقاها والمعنى، مرورا بالشابي الذي سفّه ضمور خيالنا الشعري، وخليل مطران الذي اشتكى مما سماه القيود الثقيلة، كما تمثلت في القافية الواحدة والوزن الواحد، وصولا إلى محمد العلي الذي ظل يسأل عن أس فني، دلالي بالمعنى النقدي، موحد للقصيدة العربية عدا القافية.

ولأننا لم نجد الجواب في الكتب المدرسية، ولا في مدائح وهجائيات طابور طويل من الشعراء يمتد بامتداد التاريخ، عرفنا من السؤال الإنكاري سر الإملال في العمارة الجوفاء الذي يتردد صداه في كثير من قصائدنا العربية. وأدركنا لماذا كنا نقرأ قصيدة من عشرات الأبيات من أجل الظفر ببيت " شرود " يتيم.

وكما جادل الآمدي البعد التحديثي في شعرية أبي تمام، ليحدد مدى انزياحه عن "الباراديم" العربي، اعتبر أنور المعداوي شعر العراقيين والمصريين السائرين على نهجهم ظاهرة إنحرافية فشعرهم "أشبه بالبرقيات الصحفية" يعني لا يشبه شعر السلف، فهو لا يجترح تحديثاته على الأبوية، ولا يقيم آنه الجمالي على قدسية الطلل.

هنا مكمن أيضا للخطيئة الشعرية في القصيدة العربية، فالبعد التوارثي للشعر يستلزم لدى البعض وراثة "العهدة الشعرية" بكاملها، خيرها وشرها، حتى أمراضها اللفظية والمعمارية، فمن العيب، بل من الخطأ قتل الأب. وعقدة قتل الأب في الشعر العربي مسألة فيها الكثير من النظر، والقليل من الفعل، إن لم ينعدم، فتراجيكوميديا الشعر العربي تسمي نكوصية شوقي والبارودي مدرسة "الإحياء" أو هكذا سموا أنفسهم، فيما اكتفي العقاد، قبل أن ينكص هو الآخر، بمسمى "الديوان".

وهنالك من لخص مأساة شعرنا في انتحائه غربا، وأخذ عليه شدة الاغتراب، بمحاولة تعريب القصيدة النثرية الغربية، حيث كان منتصف القرن لحظة العبث بالحساسية الشعرية العربية، ونقطة الانقلاب البلاغي، أو انعدام الوزن الثقافي، المؤسس على خطابات " شعر، حوار، و الآداب " ومن قبلها " التطور - مجلة جماعة الفن والحرية " وما قصيدة النثر إلا صيغة من صيغ اقتداء المغلوب بالغالب وتقمص هويته، أو هكذا يمكن النظر إلى نثريات الريحاني " هتاف الأودية " كنسخة معربة لديوان وايتمان " أوراق العشب " وإلى كل ما أومأ إليه هو وجبران وغيرهما منذ زمن، ليصير اليوم واقعا شعريا يصعب التعامي عنه.

وبين هذه وتلك، تتبعثر أسباب وأوهام. إشاعات وخرافات. تأثيمات وتخوينات. تحذيرات وتوصيات. فمن قائل بالجنوح إلى السياسي كعلة لوهن القول الشعري. ومن متبرم من تضاؤل دور الانتلجنسيا حتى ضمن دائرة الوعي والحداثة الشعرية. ومن لائم للقارئ الذي انصرف عن الشعر إلى بهرجة الصورة وسطوة الأنفوميديا والميدلوجيا عموما كما تتمثل في القنوات الفضائية كأسوأ صيغة أو محصلة معرفية. ومن متهم للفضاء المديني كقاتل للمتخيل. ومن رابط بين انكسار عمود الشعر وانكسار الإنسان العربي يوم النكسة، ومن قبلها النكبة.. وهكذا.

بالأمس، اتهم البياتي مجلة الآداب بالعمل لخدمة الاستعمار، ومعروف عنه عشقه للقمم المدببة، تلك التي لا تتسع لشاعرين ولا حتى لنديمين، فهو لم يرحم مجلة شعر وأدونيس خصوصا. وقد لا نتصور اليوم أن سهيل إدريس المسالم، الرائد، والمنفتح، قد انساق للعبة التهجمات والتهجمات المضادة، فوصم يوسف الخال بالتلهف على عصر الوثنية بعد أن قرأ قصيدته " الدعاء "، وأن سعيد عقل رمى بكل عبقرياته العربية تحت قدمي " قدموس " ليتفينق ضد الشعر والتاريخ، وأن العقاد اعتبر الشعر الحديث " شعرا سائبا " وأحال كل جديده إلى " لجنة النثر ".

وما أشبه الليلة بالبارحة، ولئلا تشبه ما بعدها، لنتأمل مآلنا الشعري من أفواه الكبار، فما نشهده لا يرقى إلى مستوى الجدل، إنما هو ملاسنة، فمحمود درويش الذي لا يحتاج لشهادة حسن سيرة وسلوك " شعرية " يباهل النثريين بمنتهى الغياب واللاشعرية عن الوعي الإبداعي " تعالوا نتبارز نصا لنص ‍‍" ثم يعلن أنه يخاف من ميليشياتها.

أتراه مذعورا من القادم، خصوصا أن " الفلسطنة " والقضية تحديدا كوقود لشعريته نفذ تقريبا !؟ ربما، فقبله جورج جرداق بقامته ومكانته الأدبية والفكرية تقوّل على النثريين، وعيّرهم بالفيل الذي داس على شارب البرغوث، ربما لأنه لم يحس بالمرأة في ثنايا القصيدة النثرية، أو رأها متخشبة، وهو الذي لا يقر نصا لا تكون المرأة عروسه.

أترى النخبة تحاول أن تزرع الخوف في طريق القادمين لتطردهم من اللغة كمكان اجتماعي ؟ ولتمنع عنهم فهم أسرار ومكامن السلطة ؟ فهذه القصيدة لا تنوي أن تكون فاصلا بين القول الشعري القديم والحديث وحسب، بل تزعم أنها قادرة على أن ترسم حدا باترا بين الشعر العربي الحديث والحداثة الشعرية كمفهوم ورؤية فلسفية للكون في علاقته بالتعبير الفني.

وربما لهذا السبب بالذات وجه عبدالقادر الجنابي، الصدى السريالي العربي لبروتون، تهمة الجهل بمنشأ القصيدة النثرية لأدونيس، ولم يكن ذلك الفلم الأمريكي الطويل، المحتج على ثابت التراث بمقترح التحول الحداثي، قد برأ من غمزات كاظم جهاد وغيره التي تبدأ بتهم السرقة والانتحال، ولا تنتهي عند التغرب.

وبمنتهى النكوص تم الاقتراح، ثم الإجماع، للبحث عن مرجعيات عربية لتعويم عيوب القصيدة العربية، ولم يعد مقترح النويهي باعتماد العروض الإنجليزي القائم على النبر خيارا وحيدا، أو الوصفة النهائية للقصيدة العربية، فقد تشظت الإشكالية، وصرنا نسمع طحنا، ولا نرى شعرا، ولم يعد بإمكان أي متابع أن يحدد مدارات السؤال حول القصيدة العربية.

أحيانا، بل غالبا ما نلوم الغرب، ذلك الملعون المتآمر حتى على الطريقة الشعرية التي يفترض أن نخاطب بها حبيباتنا. وتارة نلعن التاريخ، الذي خرجنا منه مركولين إلى القاع، إلى لحظة هبوط حضاري مذلة. نلوم الخليل بن أحمد لأنه كبلنا ببحور أشبه بالنفق فهي ليست FREE SIZE، رغم استدراكات الأخفش. نبالغ في توبيخ الشعراء الجدد لأنهم استقبلوا جهات بابلو نيرودا، وناظم حكمت، وغيلفليك، وانصرفوا عن الشنفرى، وديك الجن، وأبي الشمقمق.

نتجادل حول الريادة بشوفينية ضيقة لنؤكد عبقرية المكان التي أهلتها، فهناك عقدة اسمها إمارة الشعر، وقد آلت منذ زمن إلى أحمد شوقي بالتزكية كأمير وحيد وأبدي، لكن الماغوط، الذي لا يكف عن سخريته، حطمها في لحظة دعابة مرّة، عندما أعلن أن مصر شوقي، فيها من الهز والهرج أكثر من الشعر.

وعلى أية حال، مصر ليست الجهة العربية الوحيدة التي تعاني من شحوب الشعر، وانطفاء القصيدة، تبعا لموت الإحساس، وتشوش الرؤية، وعقدة الاحتماء بعبقرية المكان وريادته. فالكل يزعم أنه ضرب موعدا مع الحداثة الشعرية قبل الجميع، لويس عوض مثلا يحلو له أن يؤرخ مجموعته " بلوتولاند " من اللحظة التي يريدها ليؤكد أسبقيته، ولنلاحظ الجدل العقيم الذي يشد فيه كل طرف ناصية الريادة الشعرية – تفعيليا ونثريا - ناحيته، العراق يتمثل بنازك الملائكة والسياب، والسودان بآدم أحمد، والأردن بعرار ( مصطفى وهبي التل ) وسوريا بعلي الناصر، ومصر أو اليمن بعلي أحمد باكثير، وقد نسمع، إن لم يكن موجودا بالفعل من يؤكد ريادة جيبوتي. وكل ذلك يلخص حجم المأساة، فحين يفتش التاجر في دفاتره القديمة، يعني الإفلاس.

يا ترى، ما الذي تستفيده القصيدة من هذا التشاوف حول عبقرية المكان، وفرادة الصنف البشري المنتج لها سواء على مستوى النوع البشري أو ضمن الأمة الواحدة!؟ ولماذا نقرأ رائعة السياب اليوم " هل كان حبا " بصورة مقلوبة لتصبح " هل كان شعرا "!؟ ألسنا بهذه التساؤلات الناكصة نكرس وثنية الجنس الأدبي؟

أهكذا ينبغي أن نخسف بشعرائنا أو نلمعهم بأسئلة عرجاء!؟ ربما، فشهادة أدونيس لأنسي الحاج تبدو ضمن تلك اللعبة، تلميعة ضرورية للمسيرة الشعرية، فهو أٌقلّهم – أي جماعة شعر – تلوثا ( بالقصيدة العربية الكلاسيكية )، يعني أكثرهم نثرية، يعني أكثرهم بياضا بلغة التسويق اليوم. وقد لا يطول بنا الوقت لنسمع عن الشاعر الأكثر رغوة، والأكثر نعومة، فلدينا مرجعيات بهذا الخصوص يفضحها عشقنا العربي للقطات الكلوس أب، والتباهي والتصنيف، فهذا " صناجة العرب " وذاك " شاعر القطرين " وذلك أشعر الشعراء إذا رغب، والآخر إذا ركب، والثالث إذا… وهكذا.

أترانا بهذا التباطؤ والحذر الديالكتيكي ( خطوة للأمام وخطوتان للخلف ) نخشى التقدم داخل اللحظة الشعرية العالمية لأننا بالفعل خارج التاريخ!؟ وهل حقا من يخرج من التاريخ يخرج بالضرورة من الشعر ؟ ربما، فهكذا يبدو المشهد الشعري في صيغته الجدلية، وهناك حالة رهاب مزمنة في الثقافة العربية، تأبى جوهرة الشعر وتخفيفه من الإنشادية. ولكن، ألم يقد الشعر الحداثة العربية متقدما كل الخطابات، لولا صراع " الديننة والدنيوة " بتعبير أدونيس!؟ فلماذا إذا نستنبت كل تلك الفوضى من الأسئلة الهامشية التي لا مدار لها!؟ ولم لا نحاول ابتداء وعي الجذر الحقيقي للإشكالية !؟

قصيدة النثر كخلاصة غير نهائية لمكابدات فنية ووجودية، هي فرصة الشعر العربي لقراءة جدلية أعمق لمعنى وكنه الشعر. وفي تأمل معنى " وعي الإشكالية " من مهابها التاريخية والثقافية والاجتماعية والفنية يكمن مفتاح قولنا الشعري. وفي ذات المفصل خلاصنا من الرطانة والعجمة. فنحن نتحدث عن عناوين عريضة، وأسئلة طائشة دون جهد حقيقي أو تجذيري لوعيها : التجديد، الحداثة، الأصالة، الهوية، الآخرية، إلى آخر المنتجات الاصطلاحية المنهكة.

المشكلة لا تكمن فيمن وصل أو سجل قبل الآخر، ولا في غلبة السياسي على الثقافي. وإذا كان نجيب محفوظ قد تنبأ بزمن الرواية، حسب جابر عصفور فانحاز إليها ليحصد نوبل، فانه لم يكن في داخله من الشعر كما كان في قلب جبرا إبراهيم جبرا الذي تلقف بابستمولوجية جادة دعوة هيجل لنهاية الشعر فانعطف عنه إلى الرواية، لكن خروجه المبكر لم يتسبب في هجرة جمعية من مداراته.

ومن السذاجة أن ننسب كل تلك التراجيديا القولية إلى المؤثر الغربي انبهارا، أو الموروث الثقافي يأسا من فقر الراهن أو انكفاء لأمجاد مضيعة، إذ الاصغاء إلى الآخر بكافة تمظهراته شرط من شروط الحداثة، ولا توجد ظاهرة إبداعية لا تنفصم أمام هاتين المجرتين الجاذبتين بكل تداعياتهما، أو لا تقع تحت قدرية التقليد، فخطاب التنوير الثقافي العربي عموما لم يكف عن تمثل الطروحات العالمية وإحالتها إلى صيغة عربية. ومن التعسف أن نحتج بقلة أو كثرة القراء، حتى وان كان القاريء هو مشروعنا الدائم. ثم ما الذي يهم إن كانت قصيدة النثر بنتا شرعية للتفعيلة، أو خارجة عنها؟

المعضلة في الإرادة والوعي والشعور، أي كل ذلك وخارجه، وهي في المكان والكيفية التي سنأخذ إليها أسئلة الشعر لنصادم صنمية المصطلح والجنس الإبداعي، أي في ذاتنا التي لا بد أن تتكئ على كل ذلك وتخرج منه في نفس الوقت، لتنمذج نفسها مع اللحظة، وتبوصل بوحها أكثر ما تستطيع عن قبلة " نوبل " وعن لاهوت وثابت ودوغمائية الموروث إلى جهة الإنسان، حيث المعنى، ففي الشعر تتجلى مسألة الهوية بوعيها ولا وعيها حتى أبعد نقطة في الكيمياء البشرية.

فلنعي أولا حقيقة السؤال، ومداه، وما يترتب عليه من اشتراطات تاريخية وثقافية وفنية، فالشعر اليوم ينحى للشفوية، ينابذ المنبرية والوعظية، ويتجه لأن يكون نشاطا ذهنيا، يختلس بصريا، فهو يقترب أكثر إلى الروح النثرية التي اعتبرها التوحيدي " أدل على العقل " وأبعد عن التركيب، أي الى المنطقة التي ساوى فيها ابن طباطبا بين المعنيين : الشعري والنثري. والفعالية الشعرية هي التي تتوغل بانتباه ودراية داخل التجربة الإنسانية، وتنأى قدر الإمكان عن التعالق بالخطوط الخفية لأي شكل من أشكال السلطة، لتكتسب قيمتها التاريخية، قبالة الناقد الأكبر وهو الزمن، من خلال رهانها على إنتاج الإيقاع، الذي تتداخل فيه جملة من البنى اللغوية والدلالية والصوتية.

ورغم الخوف الذي يبديه إدوارد ستاينون على " الشعر في زمن المدن " واحتمالية انقراضه فيها، إلا أن الفعالية الشعرية لا يمكن إلا أن تكون شعرا مدينيا، بتعبير بودلير، بالنظر إلى الصلة الجوهرية القائمة على مقابلة إيقاع الحياة مقابل النص، وبتصديق ويستان أودن، الذي ينفي عن الشعر اليوم القيمة المنفعية، فهو تعبير إنساني يقوم على شعرية الكتابة لا شعرية الإنشاد، وبالتالي لم يعد " كفن يستخدم لتقوية الحفظ والذاكرة "ولذلك ينبغي أن يبث على موجة، أو نبرة صوتية حميمة" حديث شخص إلى شخص، لا لجمهور كبير. وعندما يرفع الشاعر الحديث صوته يصبح دجالا ".


0 التعليقات

أكتب تعليقا على الموضوع

جميع الحقوق محفوظة جمعية الكلمة تصميم مكتبة خالدية