الشاعر سيف الملوك سكتة /الخيال أكثر واقعية من الواقع

حاورته/ كنزة مبارك

هو واحد من شعراء عنابة المجيدين،خرج من كفنه مبتسما،يطارح بونة أشعاره ورؤاه،فهو الرائي الذي خبرها بكل ما سيحدث،وعندما صدقت رؤاه ولدته يداه شاعرا كما أراد..خانه لسانه مع حرف الراء غير أنه أثبت أن هذا الحرف الذي يكثر استعماله في قصائده شيطانٌ صغيرٌ في ملكوت اللغة،يراوغه ويوسوس له فيقترف الكتابةَ ويتعبد في محرابها،"يرمي في يم الإيماءة معناه"فتصبح للكلمات مدلولات جديدة،غير أن حيرته لن تنتهي عند ذلك،إذ يكذب الوردة ويكذب اللغة و"يكذب الشمعدان"وتحمل يداه أكثر من كف..يكتب بيد ويمحو بالثانية ما كتبت الأولى وفي النهاية يحدث أن تولد لسيف الملوك سكتة قصائد يعيش معها حياة مليئة بالشك واليقين والمغامرة والدهشة..

من أين تغرِفُ قصيدة سيف الملوك سكتة، وكيف تتشكل ؟ وهل تعتقد أن قصيدتك مازالت برعما يكبر أم أنها كبرت وأزهرت ..؟

لو أعرف من أين تنبع الكتابة لانتهت حيرتي،لكنها تتشكل حسب مشيئة عليا في الذات اللانهائية..للشعر حكمته المتنقلة،ولي أن أتفشى دلاليا لأشفى من العادات ..يدَّعي انشتاين أن الخيال أهم من المعرفة ولكنهما لا يستغنيان عن حوارهما ،ولكني أقول مع "يونيسكو"الخيال أكثر واقعية من الواقع ويحتاج شرح الجملة إلى كتابين..فالقصيدة تحاول أن تحافظ على طفولتها ،تتعلم في كل يوم المشي إلى جهة لم تطأها الروح بعد،تراوغ القدمين والرأس وأفق انتظاري لأني القاريء الأول لما لم أكتبه بعد.. حين أكتب أحاول أن أراوغ يدي ولما أفشل في القبض على غزلان المعنى ومطلق الشعرية أحاول نصا آخر..ولذلك كتاباتي تنطلق من فشل سابق .

ما هي حدود الفصل و نقاط الوصل بينك وأنت تكتب ، وبينك وأنت تبدع ؟

- أنا اكتب بيدين؛الواحدة تمحو ما تكتبه الأخرى،كأن لي أكثر من ذات،أستطيع أن أشاهد نفسي من الخارج وأنا أؤدي حياة غريبة عني بما أوتيت من إنسانية،ويظل داخلي مظللا بمغيبه المرتفع العراء.

أكاد أحافظ على لياقتي اللغوية بإضاءة أصابع الروح المقطوعة التي كثيرا ما تكتب متسللة فيقطعها الشعر أحيانا من ورود قلقة..تبدأ الحالة برغبتي الملحة بمغادرة الزمان والمكان على نحوٍ ما..عزلة داخلية وصمت كبير حتى وأنا أثرثر وأمشي مع الآخرين ..لاأحلق ذقني ولا شعري ولا استحم ولا أغير ثيابي حتى تنتهي الحالة بكتابة ما..أحاول أن أكتب متناصا مع نصوص سيكتبها شعراء المستقبل،لأن الشعر كما كل العلوم والفنون تتطور تقنياته وعلينا أن ننصت للآتي بعمق.

ماذا تطرح الكتابة الشعرية عند سيف الملوك سكتة من إشكاليات ؟

- الشعر بدأ في المعابد القديمة،ووجدت أكثر مفهوماته القديمة والحديثة كانها تحدد ماهية الله سبحانه وتعالى،كما ان الشعر طاقة كيميائية وفيزيائية وهندسية وفلسفية–إلى ما لا نتحمله وإلى أوله-وتتدخل في كتابته لا مرئيا الجن والشياطين والملائكة والخيال والمعرفة والخبرة والصدفة والقراءة الخاطئة.. دائما أتفادى الإنزلاق إلى مجاهل قاتلة؛فانا أسير على حافة الكتابة حذرا،فهي كثيرا ما تغير مجرى اليدين،وأراها عبادة أتقرب بها إلى الله لما فيها من روحه.

تكتب نصوصك الشعرية منطلقا من رؤية حداثية تحمل اللغة هاجسا ، كيف تراوغ هذه اللغة – السهل الممتنع - و كيف تطوِّعها ؟

- اللغة عجينتي المفضلة أخبزها على أفران القلب وأنا متكيء إلى الهاوية،متأملا سحب الرؤى الممطرة حيث تشاء..أنا أعلم أن خراجها لي،وكما قلت فالحداثة بمفهوماتها المتداولة أضحت كلاسيكية ينبغي تجاوزها ليس بما بعد الحداثة كما يحدث دائما وإنما بتأمل المشهد من داخله واستعادة الرؤية والرؤيا،والعذرية الشعرية دلاليا..لا نريد أن نكتب كما كتب أجدادنا الشعراء،بل كما سيكتب أحفادنا..أفكر في الشعركخلفية نظرية وبالأبعاد الثلاث لإيتالو كالفينو"السرعة والخفة والحركة"،أشتغل على الحذف لأن البياض ضروري لامتحان ذكاء القاريء وخياله وثقافته ليملأ النصوص الغائبة..ويحدث لي مع اللغة ما يحدث للمتصوف مع فيضه وحلوله..لا أدعي أكثر فانا أمارس الحب مع اللغة في اللغة .

يرى بعض الشعراء أن في قصيدة النثر مستقبل الفن الأدبي ، ماذا يرى سيف الملوك سكتة فيها ؟

- النثر تراث الآتي،وهو يحمل طاقات دلالية وشعرية لا تتيحها القصيدة العمودية فحد الشعرية ينبغي ان يتغير تبعا لما اكتشفناه كما تغيرت حدود العلوم و الفنون كلها..قيل قديما أجود الشعر ما إن قرأت الشطر الأول توقعت الشطر الثاني ، وحد الشعر حديثا ألا نتوقع الجملة الثانية ولا حتى الإيقاع الذي يظل في القصيدة الكلاسيكية شكلا حديديا ونظاما موسيقيا عسكريا،بينما لو بحثنا قليلا لوجدنا أصل الوزن الساكن والمتحرك"السبب والوتد"وذلك متوفر في النثر بما يكفي؛فاللغة تحمل وزنها وإيقاعها النابع من داخل الشاعر،إيقاع الحياة الغائب،موسيقى حرة يرقص عليها الشاعر.

يستسهل البعض كتابة القصيدة النثرية، هل تراها فعلا الشكل الأسهل في الكتابة الشعرية ؟

- الشعر صعب،لايمكن اصطياده بمهارة كافية،والنثر يتيح مساحة أكبر للرؤية،وللحفر في أديم الآدمية العذراء وغابات اللغة المتفجرة غواية،وإذا كنت أعتبر البحور الخليلية عكازات يسير بها الشعراء الكلاسيكيون في أرض الشعر الوعرة،فالنثر هو السير بدون عكازات،وهنا يصعب الحفاظ على التوازن الحر،واتباع الموسيقى الداخلية العميقة المتدفقة التي تذهب كالماء في اودية السماء.ولقد لاحظت أن أغلب من يكتبون القصيدة العمودية مصابين بالغباء والسطحية وأمراض العظمة،وقليلون ممن يكتبون النص التفعيلي أو النثري بذكاء أصابوا الشعرية..لا بد أن نتعلم كيف نتفادى المجاملات القاتلة والنظر في بحيرة النرجس،ومع أني أخشى أن أكون من بين الحمقى هؤلاء إلا أني أقول مع أليعازر"ينبغي قطع رأس الأحمق"ويبقى الشعر أكبر من الشعراء.

يصعب الإمساك باللحظة الشعرية عند كتابة قصيدة النثر ، كما تصعب أيضا كتابة قصيدة نثر فيها إيقاع وموسيقى داخلية ، ماذا تحمل – في رأيك - قصيدة النثر بداخلها من تقنيات ولغة ومواضيع ؟

- النص النثري نص المطلق،يحمل موسيقاه المتغيرة حسب التوتر الداخلي،يحمل معناه بعيدا ليصيب الدهشة،ويوظف كل ما لا تتوقعه القصيدة العمودية .

ترفض بشدة ما يكتبه شعراء اليوم من قصائد عمودية ، هل ترفض بذلك أن يتسع الواقع الشعري لكل ما هو شعر بغض النظر عن كون النص قصيدة نثر أو تفعيلة أو قصيدة عمودية ؟

- القصيدة العمودية بنية فكرية وسياسية ونفسية تنتمي إلى نظام القبيلة العربية قديما الذي يناسب حياتها،فهي ليست بريئة،ومن السذاجة أن تظل مستعملة..هناك من يقول إن الشعر الحديث غربي،وما يردده ادونيس أن أصوله عربية في"الثابت والمتحول"أو في "زمن الشعر"محض تعرية المتعري،وأنا أتساءل لما لا نستفيد من الأدوات الشعرية العالمية كما استفدنا في كل المعارف،أم أن نرجس ينظر إلى نفسه في مرآة الماء ويقول الشعر معجزة العرب،ولا يصلح آخر شعر الأمة إلا بما صلح به أولها"ولي تأويل مختلف لذلك".

ألا ترى معي أن العيب لا يكمن في القوالب وإنما فيمن يصب كتاباته فيها ؟

- إن تحرير قصيدة كعتق رقبة، فنحن في عصر النص العابر للأجناس الأدبية،ولكن على الذين لا يطيقونه أن يطلقوه،فالقصيدة العمودية ذات بنية واحدة ديكتاتورية،ومازال الشعراء العبيد يتحملون أوزارها..لم يفهموا ان الشكل اختيار والذي يملك الاختيار هو المتمرس في كل الأشكال،فطفولتي الشعرية بدات بالنص العمودي،ولكنني تحررت منه ومن السلاسل الذهبية التي وضعها الخليل بن احمد الفراهيدي،تلك العكازات التي وضعها للكسالى والمقعدين،ومن جرب يعرف أن النص النثري أصعب الأشكال الشعرية .

فيما تفكر الآن ، وماهو جديدك ؟

- أفكر في نفي التروديناميكا"علم الحركيات"وكيف أطبق الفلسفة الفيزيائية على نصوص شعرية..تحدثت عن رواية فلم أكملها،تحدثت عن كتاب نظري "الأقليات المبدعة"فلم اكمله،لذلك لن أتحدث عن جديد يتقادم إلا بعد غد.

ما هي برأيك خصائص الكتابة الشعـرية لدى الجيل الجديد من الشعراء بالجزائر؟

- إذا كان جيل السبعينات هو جيل التأسيس وجيل الثمانينات هو جيل الشعرية،فجيل التسعينات جيل إرتياد الآفاق المتغيرة،جيل الاحتفال بالمعنى ،والاستعمال الذكي للغة،والنصوص المثقفة،وجيل الالفين سيكون أكثر جمالية وسيشهد تغيرات أفقية وعمودية بدءا من 2030،حيث سيصبح للشعر مفهوم مختلف،فتجارب النص التفاعلي ومن خلال الأصابع الذكية والإلكترونية المتدخلة في عملية الكتابة الأخرى..علينا أن نحدس بعمق شعرية متغيرة نؤرخ لها من المستقبل تنازليا،فالأغبياء يريدون بقاء الشعرية على ما كانت عليه.. بينما كل شيء يتطور إلى ما يريده الله والإنسان الذكي،وخصائص الشعرية الجزائرية الآن أنها متحركة ومتعددة المنابع،واللافت أنها لا تمتلك شاعرا كبيرا ولا مرجعية كافية،ولا واقعا ثقافيا ملائما لإنتاج العبقريات،ولكن الرهان سيكون على الإجتهاد الفردي ممن يمتلكون مخابر شعرية يجربون فيها تفاعلات المعنى والشكل والروح .

عهدناك من المناشدين بإلحاح لـوضع قانون خاص بالكاتب في الجزائر ، يضمن له جملة من الحقوق التي هو الآن محروم من أدناها ، حدثني عن هذا القانون وعن مضمونه ؟

هناك نصوص تشريعية خاصة بحقوق المؤلف والحقوق المجاورة إلا انها متاخرة بما لا يسمح للمبدع ان يتحصل على حقوقه التي لا يعرف عنها إلا ما يعرفه في حالة المرض التقاعد التعويض،التفرغ الإبداعي والمساعدات الإجتماعية لكن ينبغي لإتحاد الكتاب الجزائريين أن يكون نقابة تدافع عن المصالح المادية والمعنوية للكتاب وكذا الجمعيات الثقافية والكتاب والمثقفون المتواجدون في البرلمان أوالوزارات يجب أن يتحدوا ككل الأقليات الحيوانية الآيلة للإنقراض،والتي تدافع عن نفسها بشراسة،وهذا حتى يكونوا انتلجنسيا تفتقدها الجزائر.

ما هو موقفك من الحـركة النقـدية بالجـزائر؟

- أنا أعول على المبدعين المتواجدين في مخابر الجامعات ليبعثوا حركة نقدية متفاعلة مع ما يُكتب، ويهمني النقد المبدع الذي يضيف إلى النص لا الذي يدرسه كما يدرس عمارة أو تاريخ الأمة العباسية والأموية ..النقد لم يبدأ بعد ..

نقلا عن مجلة النرد

0 التعليقات

أكتب تعليقا على الموضوع

جميع الحقوق محفوظة جمعية الكلمة تصميم مكتبة خالدية